الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقد ذكر اللّه قبل هذه الآية ما كانوا يحرمون من الأنعام، وذمّهم على تحريم ما أحله، وعنّفهم، وأبان عن جهلهم، لأنّهم حرّموا بغير وحي من اللّه، ثم أتبع ذلك البيان الصحيح فقال: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ} إلخ فبيّن بذلك أنّ التحليل والتحريم لا يثبت كلّ منهما إلا بالوحي.وإذ ليس في الوحي محرّم غير أربعة أشياء: الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، والفسق الذي أهل لغير اللّه به: ثبت أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة.واستشكلت هذه الآية بأنها حصرت المحرمات في هذه الأربعة، ولا شك أنها أكثر من ذلك. وأجيب عن ذلك بأجوبة:الأول: أن المعنى لا أجد محرّما مما كان أهل الجاهلية يحرّمونه من البحائر والسوائب كما يشير إلى ذلك سبب النزول والآيات السابقة على هذه الآية. وعلى هذا المعنى يكون الاستثناء منقطعا، أي لا أجد ما حرّموه، لكن أجد الأربعة محرّمة، والاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في إفادة الحصر، كما نبهوا على ذلك.والجواب الثاني: أن المعنى لا أجد إلى الآن محرّما على طاعم يطعمه إلا الأربعة، ولم يرتض الإمام الرازي هذين الجوابين، لأنّه ورد في القرآن الكريم غير هذه الآية ثلاث آيات كلّها تفيد حصر المحرمات في هذه الأربعة ففي سورة النحل قوله تعالى: {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [النحل: 115] وفي سورة البقرة قوله تعالى: {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] وإنما تفيد الحصر، فالآيتان تفيدان الحصر وفي سورة المائدة قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 2] وهذه جملة حاصرة، وأجمع المفسرون على أنّ مراد اللّه بما يتلى هو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] إلخ. وليس فيه إلا الأربعة، وأما المنخنقة وما معها فإنما هي من أقسام الميتة، وخصّت بالذكر لأنّهم كانوا يستحلّونها، وإذ كانت الآيات الثلاث تدل على حصر المحرم في الأربعة وجب القول بدلالة الآية التي معنا على الحصر، لتطابق الآيات التي ذكرنا، لأنّها كلها في موضوع واحد، وإن من هذه الآيات ما نزل بعد استقرار الشريعة، فآية البقرة مدنية، وليس قبلها ذكر ما كانوا يحرّمون من البحائر والسوائب، وكذلك آية المائدة مدنية، وهي من آخر القرآن نزولا، ولا شيء قبلها يقتضي تقييدها، والأصل عدم التقييد، فيدل ذلك على أنّ الحكم الثابت في الشريعة من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء.والجواب الثالث: وهو المرضي أنّ الآية وإن دلت على الحصر مخصوصة بالآيات والأخبار الدالّة على تحريم ما حرّم من غير الأربعة، مثل قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ} [الأعراف: 157] فذلك يقتضي تحريم كلّ الخبائث المستقذرة، كالنجاسات وهوام الأرض، ومثل ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن جابر رضي اللّه عنه قال: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية. وما روياه عن أبي ثعلبة الخشني أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع.وفي رواية ابن عباس: وأكل كل ذي مخلب من الطير. وما روياه عن عائشة وحفصة وابن عمر من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «خمس من الدواب كلّهن فاسق يقتلن في الحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب والفأر، والكلب العقور».ففي الأمر بقتلهنّ دلالة على تحريم أكلهنّ، لأنّها لو كانت مما يؤكل لأمر بالتوصل إلى دفع أذاها بذكاتها، فلما أمر بقتلها، والقتل إنما يكون لا على وجه الذكاة، ثبت أنها غير مأكولة.وكذلك ما نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن قتله، لأنّ ما يؤكل لا ينهى عن قتله.والشافعية يخصّصونها أيضا بما روي عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: ما استخبثته العرب فهو حرام.وشنع عليهم الإمام الرازي في ذلك، ولكن كلامه لا يخلو عن وهن، ورأي الشافعية في ذلك أن الحيوان الذي لم يرد فيه بخصوصه نصّ بالتحليل أو بالتحريم، ولم يؤمر بقتله، ولم ينه عن قتله، فإن استطابته العرب فهو حلال، وإن استخبثته فهو حرام. ومعتمدهم في ذلك قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ} [الأعراف: 157] وقوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ} [المائدة: 4] قالوا: وليس المراد بالطيب هنا الحلال، لأنّه لو كان المراد الحلال لكان تقديره أحل لكم الحلال، وليس فيه بيان، وإنما المراد بالطيبات ما يستطيبه العرب، وبالخبائث ما يستخبثونه، قالوا: ولا يرجع في ذلك إلى طبقات الناس، وينزل كل قوم على عادتهم في الاستطياب والاستخباث، لأنه يؤدي إلى اختلاف الأحكام في الحلال والحرام واضطرابها، وذلك يخالف قواعد الشرع، فيجب اعتبار العرب، فهم أولى الأمم بأن يؤخذ باستطيابهم واستخباثهم، لأنهم المخاطبون أولا، وهم جيل معتدل لا يغلب فيهم الانهماك على المستقذرات، ولا العفافة المتولدة من التنعم.قالوا: وإنما يرجع إلى العرب الذين هم سكان القرى والريف، دون سكان البوادي الذين يأكلون ما دب ودرج من غير تمييز، وتعتبر عادة أهل اليسار والثروة، وحال الخصب والرفاهية.وبعد فقد احتجّ بظاهر الآية: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ} إلخ كثير من السلف فأباحوا ما عدا المذكور فيها.فقد أخرج أبو داود عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ الآية.وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير قالت: {قُلْ لا أَجِدُ} إلخ.وعن ابن عباس أنه قال: ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرّم اللّه تعالى في كتابه: {قُلْ لا أَجِدُ} الآية.هذا واستدل بقوله سبحانه: {عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ} على أنه إنما حرّم من الميتة ما يتأتى فيه الأكل منها، فلم يتناول الجلد المدبوغ والشعر ونحوه، وقد فهم النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من النظم الكريم ذلك.أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة- وفي بعض الروايات أنها كانت لميمونة- فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لو أخذتم مسكها» فقالت: نأخذ مسك شاة قد ماتت! فقال عليه الصلاة والسلام: «إنما قال اللّه تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} وإنكم لا تطعمونه، إن تدبغوه تنتفعوا به».وقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} يدلّ على أنّ المحرم من الدم ما كان سائلا. قال ابن عباس: يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء، وما يخرج من الأوداج عند الذبح، فلا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما، ولا الدم المختلط باللحم في المذبح، ولا ما يبقى في العروق من أجزاء الدم، فإنّ ذلك كله ليس بسائل.واستدل الشافعية بقوله سبحانه: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} على نجاسة الخنزير بناء على عود الضمير على خنزير، لأنّه أقرب مذكور. اهـ.
|